> فن وثقافة

«احكِ قصتك».. السرد باعتباره حرباً شاملة


«احكِ قصتك».. السرد باعتباره حرباً شاملة

«كلنا مختلفون.. بعضنا مثل بعض» هذه تقريبا صيغة إعلان إحدى شركات الهواتف النقالة. تبدو هذه العبارة من الكثافة بحيث تشعر الواحد بالارتباك. «كلنا مختلفون» طبعا، وعبارة كهذه كأنما تخاطب كلاً منا على حدة: إنما أعنيك أنت.
لكن القسم الثاني من العبارة يقول شيئا أقل تفاؤلا: نحن متشابهون تمامًا. ما الذي يوحدنا إذن؟ أليس محبطًا أن تكون الصفة الجامعة لنا هي الاختلاف، كما لو أنه كان من البداية قدرا يتجاوزنا، كما لو كان الاسم الذي يجمعنا هو حائل شفاف يمنعنا من الإصغاء، ويحكم علينا بسوء الفهم؟
غالبا لا يتم التنبه إلى الجانب المظلم من العبارة. بل قد يكون داعما أكثر لطرفها الأول.

عوضا عن مخاطرة الحوار في مواجهة حية غير مأمونة، يوفر الهاتف مكانا بديلا يضعك في أمان، يوفر منصة خاصة بك، ومن هناك يهمس لك: قل قصتك.. احكِ لهم.
ما تقوله دعاية الهاتف المحمول يفتح الباب على أيديولوجيا متعددة الوجوه من السياسة إلى السوق ومن الأدب إلى مواقع التواصل.
جسر ومرآة
«كلنا مختلفون»، أليس هكذا ستكون حكمة «احترام تعدد الثقافات»، على اعتبارها كيانات غير قابلة للتعدي؟ أليست هذه حكمة تفريغ السياسة صوريًا من الأفكار واعتبارها إدارة للاختلاف الذي تحكمه السوق في نهاية المطاف؟ ثم أليست هذه هي علة طاقة السرد المرعبة التي انفجرت على كل الأصعدة من الأعمال الأدبية إلى وسائل الإعلام إلى منصات التواصل؟
الهويات المختلفة جذريًا يقدَّم إليها الهاتف النقال باعتباره جسرًا ومرآة. من خلال الهاتف النقال تملك في عالم المختلفين «منصة» تضاعف ذاتك. وعوضًا عن وهم التواصل «المستحيل» تفتح لك طاقة السرد. كل ما يحيط بنا الآن يبدو وكأنه نوع من السرد، نوع من مضاعفة الوجود عوضًا عن تعديه. السوق هنا هي الضامن لاستقلال مسارات السرد. قل قصتك هنا، احكِ عن ذاتك.
لكن أهذا هو المشهد فعلا؟ هل ألجم السرد طاقة العنف؟ هل منع من إصدار الأحكام الأخلاقية؟ بأي حق تتعدى ذواتنا حواجزها وتحكم؟ ثم هل ما نقدمه على «المنصة» هو قصتنا فعلاً؟
من موقع مختلف ترصد جوديث باتلر أستاذة البلاغة والدراسات المقارنة في جامعة كاليفورنيا- بيركلي، سرد الذات، ليس باعتباره نشاطًا إنسانيًا من بين نشاطات أخرى، بل باعتباره «أنطولوجيا» مسرح تعرفنا على أنفسنا، هويتنا، سلوكنا نحو الآخر والعالم أو ما نسميه «الأخلاق».
تعبير «المسرح» ليس مجرد تشبيه، بل هو إضاءة لموقع الذات التي لا تتعرف إلى نفسها إلا في علاقة. وسرعان ما تتسع دائرة هذا المسرح لتكشف إلى أي مدى لا يعد السرد شيئا بسيطا ولا بدهيا، وأن كلمة «أنا» التي افتتحت «الكوجيتو» الديكارتي الشهير ليست بهذا الوضوح، ولا نعلم إلى جهة تشير فعلا.
مسرح السرد
تطرح باتلر إمكان الموقف الأخلاقي، الذي هو صورة أخرى من قصة الذات عن نفسها. فلا قصة للذات إلا وهي ترُدّ، أو تجد نفسها مطالبة أو مسؤولة. ذلك أن ذاتًا ما إنما تتأسس على مواضعات تسبقها، اجتماعية ولغوية وقانونية. إن ثمة عتمة تسبق الذات ومن خلالها تتبين نفسها لكن أبدا دون أن تسيطر على سردها سيطرة كاملة. ما إن يقول الواحد «أنا» حتى يتورط في حكاية قصة تقع أطرافها في الظل، بينما يشكل هذا الظل شرط وجوده الواعي نفسه. أي مفارقة! لكن باتلر تؤسس على هذه العتمة الضرورية التي تكتنف قصة الذات عن نفسها موقفا أخلاقيا أساسيا هو ما تسميه «التواضع والسخاء»: «سأطلب المغفرة لما لم أتمكن من معرفته معرفة كاملة، وسأكون ملزمة بالمثل بمنح المغفرة للآخرين الذين تكونوا وفق عتمة جزئية تجاه أنفسهم».
نحن نحكي من خلال لغة، وبها؛ لغة لم نضع قواعدها ولا مفرداتها. من لا يشعر بخيانة شيء ما حينما يشرع في سرد قصة؟ ثم هناك هذه المفارقة أيضًا، فما نحكيه عن أنفسنا بكلمة «أنا» يبدو كأنه يضع هذه الأنا على مسافة منا، كأننا نتحدث عن آخر كأننا نقول: «هو».
تتابع باتلر التقليد الفلسفي الذي يحكي بدوره قصة الذات وينصب مسرحها من أدورنو إلى فوكو، مرورا، بهيغل، نيشته، ليفيانس، لابلانش. لكن هناك ما يجعلنا ننظر إلى سرد الذات بعين تضع في اعتبارها التاريخ الذي نعيشه الآن، وما إذا كان قد أضاف عناصر أخرى إلى مسرحنا. الأهم أن هناك ما يجعل فكرة السرد تتصدر الآن المشهد التاريخي بشكل غير مسبوق، ليس باعتبارها اكتشافًا للأنا في «العتمة»، بل بتقديم هذه العتمة نفسها على أنها «سرد الذات»، وهو ما يقطع مع كل التقاليد النقدية، وعلى مستوى أخلاقي لا يعد إلا بالعنف.
السيد والعبد
ترتكز باتلر على فكرة الاعتراف لدى هيغل، مطورة إياها من خلال السؤال: ما حاجتنا إلى الاعتراف أصلا؟
في سرديته عن «السيد والعبد» ربما بدا هيغل أهم من وضع للسؤال الأنطولوجي عن الذات مسرحًا يمكنك أن تؤوله كحوار بين «الذات والموضوع» أو «الأنا والأنت». حوار يتعرف الإنسان فيه على نفسه بانفصاله عنها، وبما يشبه النزاع المأساوي الذي يفسر به هيغل التاريخ كله.
التشابه والاختلاف (وهي الصيغة التي تتخذها دعاية الهاتف المحمول)، هما محفزا الصراع بين الإنسان والآخر لنيل الاعتراف. في الأخير يبدو العقل والقانون والدولة هي ما يتحصل من الصراع كوسط يختزل طرفي النزاع في وحدة مجردة، إنها الملعب الآمن حيث تنتهي قصة السيد والعبد. لكن أي حلم هذا؟! الأمثولة (أليجوريا) الفلسفية الذكية التي يقدمها هيغل (لأنها في الواقع لا هي فلسفة ولا تاريخ) ربما كانت إيذانا بتحول الفلسفة نفسها إلى سردية، وصف لمشهد.
زمن آخر
كان عالم الاجتماع ريتشارد سينيت في كتابه «ثقافة الرأسمالية الجديدة» يتحدث عن الصعوبة التي يعانيها الأفراد المطالبون من قبل باحثين بالحديث عن أنفسهم، والعسر الذي يجدونه لجمع أشتات حياتهم وصناعة قصة متماسكة بسبب من تشظي تجاربهم وخبراتهم بنهاية ما أسماه دولة «الإطار الحديدي» الراعية للاقتصاد وللنمط البيروقراطي. كان آباء هؤلاء الذين قضى الواحد منهم حياته في مؤسسة أو شركة، قادرًا على رواية قصة كهذه.
ما الذي حدث إذن في العقد الأخير على وجه الخصوص؟ وكيف أصبحت عبارة مثل «احكِ قصتك» أشبه بشعار للحياة كلها؟
على غرار عبارة دوستويفسكي في «الإخوة كرامازوف»: «إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباح»، هل يمكننا القول «إذا لم تكن الدولة موجودة فكل سرد مباح؟».
قواعد الاستهلاك
تأخذ حكاية الذات الآن شكل «النضال» السياسي والحقوقي، وهي من أجل ذلك توقظ محاورها وخصمها، حتى إن لم يعد يمثل السلطة الفعلية.
«احكي» هو عنوان موقع لمؤسسة للدراسات الإعلامية والحقوقية يدعوك إلى رواية قصتك «احكِ وأثرِ العالم بحكايتك.. لتصبح مصدر إلهام للعالم كله». أما موقع «أنا إنسان» فيطمئنك إلى أنه سيتولى أمر قصتك بإعادة التحرير «دون أي تغيير لمسار القصة»، وأيضا «ليتعرف عليها كل العالم».
لقد كان هناك ما يشبه التواطؤ خلال كل الاحتجاجات التي شهدها العالم العربي على نزع الصفة السياسية منها، مع إعلاء السرد الشخصي، والبطولة الفردية. ولم يكن غريبًا أن بعض مشاهير مواقع التواصل الداعمين لهذه الاحتجاجات ارتدوا بنهايتها إلى هذا الحصن الحكائي الذاتي.
حتى في الأدب يروّج للسرد الروائي بتلك النزعة «المقاومة»، إنه أدب «موضوعاتي» يزعم الفضح، أو إنقاذ ذاكرة، أو مواجهة سلطة.
كل أشكال السرد هذه لا تضع في اعتبارها الفكرة العلائقية للسرد التي تؤكدها باتلر، وهي «أي أشكال السرد هذه» تنطلق بزعم «نضالي»، مسقطة جوانب من المسرح السردي نفسه، جوانب من السلطة التي يقف السرد نفسه على أرضها، إنه ينتصب في العتمة ويروي، بثقة من رأى.
هذا النوع من السرد يذكرنا بالحوار اللعين لـ«السيد والعبد»، حوار من أجل اعتراف لا يشبع، وهو بهذا يوفر أهم قاعدة للاستهلاك، ولاستمرار السوق.
يستخدم ريتشارت سينيت تعبير «المنصة» في مضاهاة بين منصات البيع في المجمعات التجارية، ومنصات السياسة، ويمكننا أن نضيف إليه: انسيت منصات السرد؟
قل لهم
هل سقطت السياسة؟ لنقل إنها فقدت إلى حد بعيد «إن لم يكن تماما في مجتمعات بعينها» مرجعها التمثيلي الإشكالي. ليس جراء الاستبداد وحده، بل لأن المجتمع فعليًا لم يعد موجودًا، ولا يملك هو نفسه أي قدرة على تمثيل ذاته. «احكِ قصتك» صارت نوعًَا من الاستقلال الوهمي عن شيء لم يعد موجودًا فعليًا. والأهم أنها أصبحت نوعًا من التعويض السياسي على المستوى الفردي. «احكِ قصتك» هي نوع من السياسة الذاتية، وهي تكاد تعني «احشر كتفك بين المتزاحمين وقل لهم من أنت؟» لكن على منصة البيع.
التكرار
يتضمن إعلان شركة المحمول مفارقة استنفاد الاختلاف في التشابه: كلنا مختلفون، لكن هذا يجعلنا متشابهين أكثر من أي وقت. ذلك أن تعريف الذات يقع أسيرًا لأشكال وأقنعة جاهزة ودفاعية. فما دامت رواية قصة تقع بين ذات في عتمة وطلب الاعتراف، فإن هذه القصة تسقط فيما تجاهلته بالذات: ألا وهو شرط الاعتراف، أن تمتلك قصة ما، لكنها هذه المرة ستكون القصة المرتهنة بالخارج، القصة المتداولة والرائجة سواء أكانت بمنطق السيد أم العبد. في الفيلم السويدي «أغان من الطابق الثاني» الذي تناول بما يشبه «الدوستوبيا» انهيارًا لمجتمع رأسمالي، يكرر الممثلون عبارات بعينها دائمًا كما لو بشكل دفاعي، إن السوق لم تجعلهم أذكياء، والسرد لم يحررهم. بل إن اللقطات الطويلة الصامتة في الفيلم تنقلنا إلى صورة من التراجع المخيف لقدرات التعبير. عبارات تتكرر في يأس بقدر ما تفقد معناها مع انهيار السوق نفسها.


عدد الزيارات : 1248 زيارة

كل التعليقات

    لا توجد تعليقات علي هذا الموضوع

اضف تعليق