> فن وثقافة

هل ينقذنا الشعر من فـداحة العالم؟


هل ينقذنا الشعر من فـداحة العالم؟

هل فقد الشعر سلطته، ولم يعد للقصيدة ما تغوي به سوى القلة؟، وهل كان وديع سعادة محقا عندما قال بما يشبه الحسرة «الشعر الذي حسبناه تغييرا للعالم لم يكن سوى وهم»، ولم يستطع الشعر أن يصد ببلاغته كل هذا الموت والدمار. عندما تتردد دور النشر في طباعة الدواوين وتتوقف «جهة الشعر» نتساءل: هل الشعر فعلا قادر على انقاذنا من فداحة هذا العالم، أم ان الشعر هو الذي يحتاج اليوم إلى إنقاذ؟.

الشاعرة أفراح مبارك الصباح قالت:
باعتقادي ان الشعر بخير وقادر على التجدد والتحديث، ويعتبر بمنزلة المجداف القوي لقارب حياتنا، فالحياة بحلاوتها ومرها أثمرت من خلالها العديد من الشعراء والشاعرات الذين اعتبروا الشعر بمنزلة الآذان الصاغية لهمومهم وأفراحهم. أرى أن الشعر يساعدك أن ترى الحياة من زاوية أجمل رغم بشاعة المشهد، أن تتسامح مع المعطيات بطريقة أسمى وأرقى، أن تلوّن كلماتك وما بين الأسطر بألوان فريدة وخاصة بك أنت.. حتى تتجاوز عثرات الحياة وما أكثرها!.
برأيي الشعر لا يحتاج الى إنقاذ.. بل الإنسان نفسه، فهو العضو الفعّال في هذا العالم وهو المحرّك له، يجب أن ينقذ نفسه من براثن الحياة، يطوّر قدراته ويسمو بنفسه إلى عالم الجمال والسلام وذلك باللجوء إلى الفن بأنواعه كالموسيقى، الشعر والرسم الخ.. إنها علاقة طردية. الشعر من كتابة وقراءة هو ابتسامة متسامحة على وجه هذا العالم المشوه.
غيبوبة جمالية
محمد عبدالباري قال إن الشعر برأيه يمكن أن ينقذنا، ولكن من الضروري أن نؤكد أن هذه الإجابة، كما قال، لا تصدر عن الرؤية الرومانتيكية الساذجة التي ترى- حقيقةً لا مجازا- أن التلويح بوردة الشعر في وجه شرور العالم كفيل بأن يعيدها من حيث جاءت. وأضاف:
فهذه الرؤية- بالإضافة إلى ما تعانيه من نقص حاد في الواقعيّة- تتعامل مع الفظاعات والمآسي باعتبارها إضافات تطرأ أحيانا على هوية العالم وهذا تصور مخل، فالمأساة الإنسانية «لا تحدث»، لأنها ببساطة موجودة دائما وملازمة للوجود الإنساني ذاته، وهذا ما انتبه إليه مبكرا جدّنا أبو العلاء المعري حين قال:
ونحن في عالم صيغت أوائله
على الفساد فغيٌ قولنا فسدوا
لكنّ المفارقة الطريفة تكمن في أن ما نريد للشعر أن ينقذنا منه هو عينه ما يعطي للشعر مشروعيته، فالوجود مؤلم ولكنّ الشعر ممكن لأن الوجود مؤلم، وإذا كان الفيلسوف الألماني لايبنتيز يشكك في وجود شر محض ويرى أن «الشر وجهة نظر» فإن الشعر الناجم عن المعاناة الإنسانية بكل ما فيه من روعة ودهشة يؤكد هذا المعنى، والصلة بين الشعر والمعاناة صلة مستحكمة عبر التاريخ استحكاما تجعلنا نشك أن الأمر كان مجرد مصادفة حين لم يصلنا من كتاب أرسطو المهم عن الشعر إلا قسمه الخاص بـ«التراجيديا» بينما كان حظ القسم الخاص بـ«الكوميديا» الضياع في مجاهل الزمن.
كيف يمكن إذن للشعر أن ينقذنا؟ أعتقد أن مهمة الإنقاذ الوحيدة التي في وسع الشعر القيام بها هي مساعدتنا على نسيان العالم. كل قصيدة عظيمة هي غيبوبة جماليّة مؤقتة تعفينا، نحن المصابين بكل سرطانات الواقع من عناء المكابدة اليوميّة لهذه الحياة. وبهذا المعنى يكون الشعر عملا (مجازيا)، ليس فقط لأنه يتجاوز الاستعمال الطبيعي للغة إلى الاستعمال الخاص، ولكن لأنه أيضا يتجاوز بنا ما هو كائن إلى ما نريده أن يكون.
وعي القراءة
عبدالسلام عطاري قال:
الأمر الذي يحتاج إلى إنقاذ هو الوعي؛ وعي القراءة ووعي ما يُكتب ووعي ما تقوم به دور النشر التي أصبحت للأسف عبارة عن مطابع تَطبع دون أن تحقيق ودون تدقيق ودون قراءة لِما يصدُر عنها، لكون مسألة النشر أصبحت تجارة خاضعة للتنافس بالكم على حساب النوع في الألفية الثالثة، ألفية الفيسبوك وشبكات التواصل، التي أثمرت ذائقة رديئة وصلت حد البشاعة فيما يُكتب ويُصفق له في غياب نقدٍ حقيقي يُلجم هذا الخراب الذي أصاب ليس ديوان العرب (الشعر) فحسب، وإنما كل صنوف النثر الأدبي.
هذه الحقيقة التي يجب علينا ادراكها واستدركها كي يعود الشعر إلى دوره في استنهاض الواقع نحو جماليات المعنى الذي يؤَثث عليه جسد القصيدة وروحها.

عبدالله العريمي: بعض الشعراء صيّروا أنفسهم تجار مراثٍ وسعاة بريد لدى الموت

عبدالله العريمي قال إنه لا يمكن للشعر أن يصنع مضادات حربية أو يبتكر غلافا إلكترونيا أو يدخل في تركيب الأدوية، كما لا يمكن للقصيدة في هذا العصر أن تبرم عقد صلح بين أطراف تقتتل، لكنها تضيء المساحات المظلمة كي تتمكن العين العاقلة من الإبصار، فإن لم تفعل فذاك لأن صاحبها يشكو من شرخ حاد في الشبكية، فالعين التي لا ترى الحق والجمال عين عمياء.
صحيح أن القصيدة لا تصنع زجاجة دواء أو تمنح رغيف خبز، ولا تقدر على استبدال عراء الصحراء بكوخ صغير، ولكن يمكنها أن تطيل عمر الأمل، وتصنع الإلذاذ في عصر الدماء، بهذا المنطق يمكن أن تكون حتى الأوهام الجميلة طوق نجاة، بيد أن هذا العصر معدني ودموي بامتياز ولا يمكن للكلمات أن تتنفس فيه وقد ارتفع منسوب الدماء حتى أعلى الحاجبين، ثم إن عملية إصلاح الشعراء للعالم كانت منذ البدء ولكن بمنطق الشعر وإيمان الآخر بقيمته وأثره، وقد كان له ذلك في العصور الماضية، ولكن منذ ألف سنة وهذا العالم لا ينصلح أمره، فالشعراء غير الشعراء، والناس غير الناس.
العيب كل العيب في عالمنا ولا سبيل لإصلاحه وإنقاذه إلا بتدخل إلهي ليجيء الله بخلق جديد أو يطهّر الإنسان مما أفسد الإنسان واستشرى فيه حتى المِشاش.
وعليه فإن الحمامة لا تحمل ذنب البندقية، ولا يمكن للفراشة أن تتزيّا بالأسود فقط، فالقصيدة غناء لوجه الغناء، وإضاءة برق، وفكرة لا تحد، وإن كان من عيب ففي الشعراء لا الشعر، الشعراء الذين صيّروا أنفسهم سعاة بريد لدى الموت، وتجار مراثٍ، وسماسرة حزن، أما الشعر كقيمة جمالية فهو بريء من كل ذلك.

سامي القريني: هو «المانيفستو» التأسيسي لكل المدارس الفنية

الحديث عن الشعر مرتبط بالجمال بوصفه لغةً شعوريّةً وجدانيّةً منسجمةً تستمدّ إيقاعها من الحياة، ثم تعيد صياغة الواقع وتشكيله بأدوات الوعي. ولهذه اللغة الشعوريّة أطوارها، فهي تُرى، وتُسمع، وتُتذوّق، وتُشَمُّ، وتُحسّ. الشعر هنا، هو اشتراك الحواسّ في لحظة بلوغ النشوة الجمالية في ذهن المتلقي.
في كل شيء يكمن الشعر، إنه يأتي بمنزلة «المانيفستو» التأسيسي لكل المدارس الفنية التي نشأت وتشكلت نطفتها الأولى عبر العصور في رحم الشعر. وُلد المسرح شعريّا في زمن الإغريق والرومان، وأخذت السينما زُخرفها عندما تعمّقت في اللغة السينمائية الشعرية على أيدي مجموعة من المخرجين الذين كانت لهم محاولات شعرية جادّة، وأعني، السينما الأوروبية في بعض نماذجها، والكورية، والإيرانية التي حققت أفلامها ذات اللغة السينمائية الشعرية نجاحًا وانتشارًا يقتضيان الدراسة والتحليل.
بين نشأة المسرح قبل الميلاد، ونشأة السينما في القرن التاسع عشر، بزغت شمس الأوبرا في إيطاليا، ليحدث التزاوج بين الشعر والموسيقى. ثم أُطلق على النص الأوبرالي اسم «لِبريتّو» للتمييز بين النص المكتوب للأوبرا، والمسرحية الشعرية/ الدراما. إن ثقتي بقوة الشعر وتأثيره ودوره في تأسيس حضارات سقطت، وأخرى لم تسقط، تجعلني أحتفي بالشعر في كل يوم. بالشعر وحده كان الجاحظ يصحح نظريات أرسطو ويحتجُّ به عليه في بعض موادّ كتابه «الحيوان». قررت منظمة اليونيسكو في العقد الأخير من القرن العشرين أن يكون الحادي والعشرين من شهر مارس يومًا لتذكير العالم بأهمية الشعر بعد أن كان في فترة سابقة يقام في الخامس عشر من شهر أكتوبر، وهو يوم ميلاد صاحب الإنيادة، فرجيل. تتعدد الأيام التي يُحتفى بالشعر فيها، فليكن كل يوم، يومًا للشعر، والحبّ، والسلام.


عدد الزيارات : 1599 زيارة

كل التعليقات

    لا توجد تعليقات علي هذا الموضوع

اضف تعليق