عبدالرحمن محمد البحر.. نهر خير يتدفق

 

أهل الخير والإحسان في الكويت أكثر من أن نحصيهم ونعدهم، وبخاصة في الشدائد والمحن التي ظهرت فيها جلياً فزعة أبناء الكويت الخيرين ومعدنهم الأصيل، حيث تنافسوا في عمل الخير وتسابقوا إلى بذل المعروف، فأنفقوا على الفقراء والمساكين وذوي القربى وأبناء السبيل، وبنوا المساجد والمدارس والمعاهد والمستشفيات ودور الأيتام وحفروا الآبار، فملأت سيرهم العطرة الآفاق، وتتشرف «الكويتية» بنشر جانب من السير العطرة للمحسنين الكويتيين، الذين توفاهم الله، في حلقات رمضانية يومية، استنادا إلى السلسلة التوثيقية المتميزة «مُحْسِنوُن مِنْ بَلَدِي»، التي يصدرها بيت الزكاة، ولم ينشر فيها إلا ما استند إلى مرجع أو وثيقة مكتوبة بعد اعتمادها من مصادر موثوقة هم الأبناء والأحفاد، خلال مقابلات شخصية ساهم فيها كاتب هذه السطور، رحم الله أهل الخير المحسنين من هذا البلد الطيب وجزاهم وذريتهم خير الجزاء، وشخصية اليوم لها باع طويل في أعمال

الخير، وحظي بمكانة طيبة عند الناس، ألا وهو عبدالرحمن محمد البحر.

 

اشتهر المرحوم عبدالرحمن محمد عبدالرحمن البحر بحُسن المعاملة، وطيب الخلق والمعشر، والالتزام بالكلمة، والجود والكرم. لايزال نهر الخير الذي أجراه المحسن عبدالرحمن محمد البحر متدفقا من ثلث الخيرات الذي أوقفه قبل وفاته لعمل الخير. وكان أحد أعضاء لجنة التحكيم التجاري، التي كان لها دور كبير في الفصل بين المنازعات التي كانت تنشأ بين التجار، بالإضافة إلى أنه كان من التجار القلائل الذين لم يتعرضوا لخسائر أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية.

 

نشأته الكريمة

 

ولد عبدالرحمن محمد البحر عام 1302هـ الموافق عام 1885، والده هو محمد بن عبدالرحمن بن محمد البحر، وهو أحد المحسنين الكويتيين من جيل الأوائل الذين ساهموا في بناء وإعمار الكويت، واستقرار الحياة المدنية فيها، فبسواعده وسواعد المخلصين من أبناء جيله أصبحت الكويت، كما نراها ونسعد بها الآن.

 

وهو ينتمي لأسرة كريمة وعريقة لها أياد بيض في عمل الخير، هي أسرة البحر التي تعود أصولها إلى مدينة الداخلة بإقليم نجد بالمملكة العربية السعودية الشقيقة، وهي تبعد عن الرياض بمئتي كيلو متر ناحية الشمال، ويوجد بهذه المدينة مسجد المرحوم محمد بن بحر، وهو أحد أجداد المترجَم له المرحوم عبدالرحمن محمد البحر، وآل بحر ينتمون إلى النواصر من قبيلة بني تميم، وهكذا، فقد نشأ عبدالرحمن البحر، يرحمه الله، محباً لعمل الخير، والإنفاق في سبيل الله تعالى، رغم الظروف الاقتصادية القاسية التي كانت تعيشها البلاد آنذاك.

 

التاجر الوفي الصدوق

 

لعل من أشهر القصص المعروفة عنه قصته مع أحد التجار بالثلاثينيات، عندما باع له كمية من علب الكبريت - التي كان يستوردها البحر - بكلمة منه، من دون أن يتسلم المشتري الكبريت، أو يدفع ثمنه أو العربون، وظلت البضاعة بالمخازن عند عبدالرحمن البحر إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية وارتفع سعر الكبريت أضعافاً مضاعفة، لكن البحر على وفائه، فعندما لقي هذا الشخص، قال له ألا تريد علب الكبريت خاصتك؟ قال له: لكني لم أدفع لك شيئاً من ثمنه، والآن زاد سعره أضعافاً مضاعفة، فقال له الحاج: لكني بعتك بكلمتي، وهو حقك، فأخذه التاجر وباعه، وحقق ربحاً كبيراً من ورائه، وسدد القيمة بالسعر الأصلي (قبل تضاعف أسعاره) للحاج عبدالرحمن، وفق كلمته.. وهذا يدل على مدى التزامه بكلمته، وحرصه على الوفاء بها في تعاملاته.

 

مسيرته العملية

 

بدأ المرحوم عبدالرحمن محمد البحر، يرحمه الله، ممارسة عمله التجاري، من خلال استيراد المواد الغذائية والاستهلاكية والإنشائية للسوق المحلي وأسواق المنطقة المحيطة منذ عام 1910، وكان وكيلاً لشركات ملاحية مختلفة منذ العشرينيات من القرن المنصرم. واهتم أيضا بالنشاط العقاري داخل الكويت وخارجها، وقد ساهم مع آخرين من رجالات الكويت بتأسيس وإنشاء العديد من الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، التي كان لها تأثير واضح في المسيرة الاقتصادية للبلاد، ومنها:

 

1 - شركة النقل والتنزيل، التي كان يرحمه الله، أحد مؤسسيها ومالكيها، وتأسست في الثلاثينيات، وكانت تقوم بإدارة الميناء وتتولى أعمال المناولة والتنزيل وتموين البواخر.. نظراً لتوسع الأعمال والنشاطات التجارية، رأت الحكومة في عهد المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح، أمير الكويت الراحل، أن تقوم بإدارة الميناء وضم الشركة إليها.

 

2 - شركة السيارات الكويتية العراقية في الثلاثينيات من القرن الماضي.

 

3 - شركة الكهرباء والماء.

 

4 - شركة ناقلات النفط الكويتية، وغيرها من الشركات التي كان لها الأثر في مواكبة مراحل التطوير الاقتصادي التي كانت تمر بها البلاد.

 

5 - غرفة تجارة وصناعة الكويت، التي كان - يرحمه الله - أحد الأعضاء المؤسسين لها، وقد ساهم - يرحمه الله - في تطوير وتقدم الغرفة بصفته عضواً بمجلس إدارتها بين عامي 1959-1962.

 

مسيرته الخيرية

 

كان للمحسن عبدالرحمن محمد البحر، يرحمه الله، الكثير من الأعمال الخيرية في حياته، سواء بالكويت أو بالخارج، حيث كان من الذين يسارعون لمساعدة الدول العربية والإسلامية في محنهم.

 

وقف ثلثه خيري

 

حرصاً منه على استمرار هذا النهج الخيري بعد وفاته، أوصى - يرحمه الله - بالثلث من جميع ممتلكاته وثرواته، ليكون وقفا خيريا، لاستمرار البذل والعطاء باسمه، رحمه الله، لكل ما فيه الخير والمنفعة، سواء داخل الكويت أو خارجها، ومن خلال هذا الثلث المبارك، تمَّت الأعمال الخيرية التالية:

 

وكان المسجد قد تأسس عام 1316هـ (1898م) بواسطة والده محمد عبدالرحمن البحر، يرحمه الله، وجددته دائرة الأوقاف العامة عام 1372هـ، الموافق لعام 1953م.

 

وعندما هدم المسجد في التنظيم تمَّت إعادة بنائه على نفقة الثلث الخيري للمحسن عبدالرحمن البحر في 10 من ربيع الثاني 1402هـ /1982م، وتم البناء في الموقع الحالي بالطرف الشمالي من الشارع الجديد بمنطقة براحة بن بحر بالسوق، الذي يقع في منطقة الوسط بمدينة الكويت - لا يزال موجوداً إلى الآن - وقد بلغت تكاليف بنائه الجديد نحو 1500000 دينار (مليون ونصف المليون دينار)، وتبلغ المساحة الكلية للمسجد 1100 متر2، وتبلغ مساحة مصلى النساء 200 متر، ويتسع مصلى الرجال لعدد 750 مصلياً، ويسع مصلى النساء 150 مصلية، ويبلغ ارتفاع المئذنة 25 متراً،

وقد بني المسجد على الطراز الحديث.

 

مسجد في الأردن

 

وتأسس هذا المسجد على نفقة ثلث المرحوم عبدالرحمن البحر في قرية أم عبهرة بمنطقة مرج الحمام، علامة على عمق العلاقة بين البلدين، ودليلاً على متانة الصلة بين الشعبين.

 

مسجد في مصر

 

امتد نهر عطاء المحسن عبدالرحمن البحر، يرحمه الله، إلى الشقيقة الكبرى مصر، فأسسوا مسجداً في منطقة بحاجة له، وهي قرية قصر البياض بمحافظة الفيوم في جمهورية مصر العربية.

 

مسجد في اليمن

 

وفي لفتة طيبة ومبادرة كريمة من أبناء المحسن الكريم، يرحمه الله، أنشأوا في اليمن السعيد، بلد العلم والحكمة مسجداً لله تعالى.

 

مسجد في بلوشستان

 

إقليم بلوشستان الفقير الذي تقتسمه كل من باكستان وإيران، ويوجد الآلاف من أبنائه على أرض الكويت، وكان أبناء المحسن عبدالرحمن محمد البحر من الذين عنوا بهذا الإقليم، فبنوا به مسجداً لله رب العالمين، ولا يزال يتم الصرف على صيانة هذه المساجد وتجديد لوازمها على نفقة «ثلث الخيرات» الخاص بالمحسن الكريم يرحمه الله.

 

مركز البحر الإسلامي في الصين

 

حرص القائمون على الثلث الخيري بعمارة بيوت الله تعالى في الأرض، وتلقي العلوم الشرعية، وكذلك توفير الطب والعلاج، وقد تحققت هذه الأهداف مجتمعة، من خلال تأسيس مركز إسلامي على نفقة الثلث الخيري للمحسن عبدالرحمن البحر، رحمه الله، في جمهورية الصين الشعبية، حيث يتكون هذا المركز من مسجد ومدرسة ومستوصف.

 

صالة ألعاب بمدرسة التربية الفكرية

 

ساهم «ثلث الخيرات» كذلك ببناء صالة خاصة بالألعاب باسم المرحوم عبدالرحمن محمد البحر بمدرسة التربية الفكرية التابعة لإدارة المدارس الخاصة بالثمانينيات من القرن الماضي.

 

وفي عام 2003، تم تجديد هذه الصالة وتوسعتها على نفقة الوصية، لتصبح جناحاً باسم المرحوم عبدالرحمن محمد البحر.

 

دعم الطلبة وبناء المدارس

 

حرص يرحمه الله على تشجيع الجهات المهتمة بأمور التعليم، من خلال التبرع لهذه الجهات، أو التبرع مباشرة بمصاريف الدراسة بالمدارس الخاصة للمحتاجين من ذوي الطلاب، وكذلك التبرعات للمساعدة بمصاريف الدراسة الجامعية والمساعدة في بناء المدارس ومعاهد التعليم عن طريق اللجان المختلفة، محلياً وخارجياً، وقد استمر هذا النهج الكريم بعد وفاته، يرحمه الله، من خلال القائمين على ثلثه الخيري.

 

مساهمات خيرية في كل مكان

 

لم يتوانَ يرحمه الله عن المشاركة في أي وجه من وجوه الخير والإحسان، مثل المساعدات في إرسال حجاج لبيت الله الحرام على نفقة الثلث وتنظيم إفطار للصائمين بشهر رمضان المبارك ومساعدة المحتاجين من المرضى بتكاليف العلاج، وغير ذلك من وجوه الإحسان. وكذلك المساهمة في بناء مساكن والتبرع لمستشفيات وبناء آبار ودور أيتام بالكويت، وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، مثل اليمن والبلدان الأفريقية وغيرها.

 

وفاته

 

لقد كتب الله لنفسه الخلود والبقاء، وقضى على خلقه جميعا بالعدم والفناء، وقد جرى على المحسن عبدالرحمن محمد البحر القلم، وانتقل إلى رحمة الله تعالى في 31 يناير عام 1972 في لندن بالمملكة المتحدة، عن عمر يناهز السابعة والثمانين، بعد عمر مديد حافل بالعطاء والبذل والإحسان.