> فن وثقافة

موجة تحطيم التماثيل.. هل هي تبييض لثوب التاريخ؟


موجة تحطيم التماثيل.. هل هي تبييض لثوب التاريخ؟

مهاب نصر - يبدو أن العبارة التي تداولتها لافتات المتظاهرين في عواصم مختلفة منذ مقتل الأميركي جورج فلويد «لا أستطيع أن أتنفس»، باتت تحمل أكثر من معنى، فهي ليست مجرد تذكّر للاستغاثة التي خاطب بها جورج فلويد ضابط الشرطة القاتل، بل كأنها باتت تتوجه إلى مجمل التاريخ الاستعماري كله، وكأن هذا التاريخ قدمٌ أو يدٌ غليظة خانقة بات من الضروري التخلص منها ومن إرثها. ضد هذا الإرث البغيض انفجرت موجة التخلص من التماثيل والنصب التذكارية، التي رأى المتظاهرون في مدن وعواصم شتى أنها تمجد التاريخ الاستعماري أو أن أصحابها ضالعون فيه. قرار رئاسي هذه الموجة أثارت غضب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي أصدر بدوره قراراً يبيح للسلطات أن تلقي القبض على المتورطين في ما اعتبرها أعمال تخريب وتدمير للتماثيل التاريخية، حيث يتعرض المشارك في أعمال كهذه لعقوبة تصل إلى 10 سنوات سجنا. كان متظاهرون من قبل في العاصمة واشنطن قد أطاحوا بتمثال ألبرت بايك، الجنرال الذي يعد مؤيداً لتجارة الرقيق. ومن قبل كان متظاهرون في بريستول، ينتمون إلى حركة «حياة السود مهمة»، قد حطموا ضمن احتجاجاتهم على مقتل جورج فلويد تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون. وفي ريتشموند بولاية فرجينيا شرع محتجون أيضا في تحطيم تمثال المكتشف الكبير كريستوفر كولمبوس. حتى روزفلت لكن واحدة من المبادرات الأكثر دلالة اعتزام متحف نيويورك إزالة تمثال الرئيس الأميركي السابق ثيودور روزفلت استجابة للمناهضة الواسعة للرموز العنصرية في حادثة «فلويد». ويبدو الأمر وكأنه حتى الجهات الرسمية أو شبه الرسمية آخذة في إعادة فرز تاريخية، محاولة تنظيف ثوبها من الإرث الاستعماري والعبودية التي على أساسها أو باستخدامها صيغت معايير التفوق في المجتمعات الغربية المتقدمة. في كتاب «سياسات العداوة» لأشيل مبمبي، يلح الأخير على فكرة مفادها أن تاريخ الديموقراطية الغربية نفسه كان الوجه الآخر للاستعمار والعبودية التي أسماها بسياسة «المزرعة». بينما يشير المفكر والباحث الفرنسي برترتند بادي، في كتابه «عندما يبدأ التاريخ»، إلى أن مفهوم الدولة القومية في الغرب قد اتسم بالازدواج: سِلْمٌ أهلي في الداخل، وتصدير للعداء الدائم في الخارج. والأهرام أيضاً.. Volume 0%   مراجعة التاريخ الاستعماري والعبودية وآثارهما ليست بالامر الجديد بالتأكيد، لكن ما قد يثير الجدل هو هل بالإمكان التخلص من كل رموز هذا التاريخ، التي باتت تمثل جزءاً من الإرث الحضاري للأمم والشعوب بغض النظر عن أهدافها الأولى. ما يثير التساؤل هو أن بعض الاحتجاجات شهدت مناداة بتحطيم الأهرام على سبيل المثال! الفن ومحاكم الأخلاق تختلط أمجاد البشر بأعمال مخزية أحيانا، وكثير من الآثار الخالدة على مر التاريخ يمكن النظر إليها كشواهد على السخرة والاستعباد واستعلاء السلطة المحوطة بالأبهة وفخامة الفن. وما يحدث الآن (مجرد طرح التساؤل) هو كتابة لتاريخ جديد يثير العديد من المشكلات: مثلا هل نحاكم الأعمال الفنية باعتبار أصلها أو هدف إنشائها الأول؟ كم من الآثار البشرية يمكنها أن تنهار؟ وأي ممحاة ضخمة سنكون بحاجة إليها لتبييض وجه التاريخ؟! وهل يعني التخلص من الرموز أننا تخلصنا فعليا من أسباب العبودية، أو من طبيعة النظم والأفكار والمؤسسات التي أفرزتها، أم أننا نكتفي بهذا الفعل الجمالي الاحتفالي بسحق تمثال أبكم، أو جره وسحله فوق طرقات المدينة؟ لدينا على الأقل خبرة سابقة لا تبشر كثيراً: أسقط المتظاهرون في مدن عدة خلال العقدين الماضيين تماثيل وأنصاباً لرؤساء، لكن هل تغيرت الحال فعلاً؟ هل كان إسقاط الرمز افتتاحاً لتاريخ أكثر حرية؟ هل تبييض ثوب التاريخ كاف ليدل على نقاء بدنه وهيكله؟! وأخيراً، هل نخلط بين القيم الأخلاقية والجمالية، بحيث عوضاً عن النقد والتذوق الجمالي، كنشاطين اكتسبا الكثير من الاستقلالية، نقيم محاكم أخلاقية للفن ولواحقه؟



عدد الزيارات : 708 زيارة

كل التعليقات

    لا توجد تعليقات علي هذا الموضوع

اضف تعليق