> منوعات

رواية «حوض الفرنساوي».. الحرب والأمل.. والحب يحضر أيضا


رواية «حوض الفرنساوي».. الحرب والأمل.. والحب يحضر أيضا

صدرت الطبعة الأولى من رواية «حوض الفرنساوي» للكاتب المصري مصطفى أحمد أبو المجد، بعنوان فرعي خُطَّ بأسفل عنوان الرواية هو «عندما تشتد النوازل نفرُّ جميعا إلى الوطن».
و«حوض الفرنساوي» هو الساحة التي دارت فيها وقائع معركة خالدة خاضها أهالي قرية سمهود، وهي إحدى القرى التابعة لمركز أبو تشت بمحافظة قنا، ضد جنود نابليون، أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.
الرواية التي صدرت عن دار المجد العربي للنشر والتوزيع إذن رواية تاريخية وطنية حاولت تسليط الضوء على نضال المصريين عبر التركيز على بؤرة محلية في ظرف تاريخي مضطرب، اجتاحت فيه خيول نابليون ومدافعه مصر، بهدف زيادة نفوذ فرنسا في البحر المتوسط، وتحويل مصر لمستعمرة فرنسية تغنيها عن المستعمرات البعيدة، وتمهيد الطريق لطرد الإنجليز من الهند واستيلاء فرنسا عليها، ومصر هي مفتاح الطريق لهم في ذلك الحلم الاستعماري.

احتلال وتنازع وانقسام
تصور الرواية كيف دخلت جيوش نابليون إلى البلاد المصرية، وهي تابعة رسميا للخلافة العثمانية، وفعليا تحت سيطرة المماليك الذين تنازعوا فيما بينهم على تجريف موارد البلاد وإفقار الشعب وإذلاله بالإتاوات والضرائب المختلفة، ما كان له عظيم الأثر على حياة المصريين، وما تسبب به في عزوف شبابهم عن الزواج والهرب منه خوفا من تحمل المسؤولية وضيق الأرزاق والضرائب الكثيرة المفروضة من قبل المماليك والولاة.
وفي وضع مضطرب كهذا الوضع قدمت الرواية نسخا متضاربة في الموقف الواجب اتباعه إزاء الفرنسيين، وفي النظر للمماليك، فكان هنالك الصوت الديني ويمثله الشيخ الإدريسي، الذي يلوذ بالقرآن لواذ المتحصن بالشديد القوي إزاء مصائب الدهر ونكباته، المسكون في الآن ذاته بشيخوخة ثائرة ترفض الهوان وانتزاع الأراضي دون مقاومة، يعاضده صوت الشباب المتنورين الذين تلقوا العلوم الدينية والأدبية في الأزهر الشريف، ممن يرون أن السلطة أساسها الاختيار وليس القوة، وأن المماليك اغتصبوا الأرض فلا بيعة لهم ولا طاعة، وأن الأمة المصرية وحدها صاحب الحق في تقرير المصير، ويرتفع ذلك الصوت حدة وهو يرى أن «الأخذ على يد الظالم  واجب، نحن ندفع ثمن صمتنا، لم نأخذ على أيدي المماليك الذين ظلموا البلاد والعباد فعمنا الله بعقاب من عنده».
وفي مقابل الصوت الثوري تترد أصوات أخرى، أحدها يمثل  وجه العجز والإقرار بالضعف والاستكانة إلى مشجب القضاء والقدر نظرا لمعطيات الواقع وهوان الشعب وفقره وذله وضعفه، مع صوت مشابه في العجز والاستكانة ولكنه يداري بخشية الفتنة، وبإبداء الولاء والتبعية للمماليك الذين هم في رأيه أصحاب بيعة شرعية في أعناق المصريين. 

خديعة فرنسية ووعي شعبي
 تدلف الرواية كذلك إلى إبراز الدهاء لدى المحتل الفرنسي الذي حاول التلاعب بمشاعر المصريين وارتباطهم الديني القوي، عبر توزيع المنشورات على كافة الأقطار المصرية، تروج للاحتلال وتظهره بمظهر الحريص على مصر والمصريين، والرامي بمجيئه للبلاد إلى تحريرها من سيطرة المماليك المغتصبين، وتداعب كذلك البعد الديني لدي الشعب المصري بإبداء الاحترام للإسلام ونبيه وشعائره المقدسة.
لكن ذلك الدهاء الفرنسي واجهه –بحسب الرواية- وعي شعبي مكين، لم ينخدع بكلام بونابرت، وينظر إليه على أنه «كلام ناعم الملمس مثل الثعبان ولكنه ناقع السم»، وأن لعبة الفرنسيين مكشوفة ومفضوحة، وأنهم لو أرادوا أن يحرروا المصريين حقا من المماليك لما كان أول ضحاياهم محمد كريم الحاكم المصري للإسكندرية وإعدامه بعد تعذيبه وحبسه، ولذا نرى الرواية تجمل ذلك الموقف الواعي في مقولة الشيخ الإدريسي: «يتحدثون بأفواههم ولكن تأبى قلوبهم، يعلمون أن القوة الحقيقية القادرة على مواجهتهم هي قوة الإسلام، فالعداء موجه نحو الإسلام».
وفي مقابل هذا الوعي المصري، نرى الجنرال ديزيه شأنه شأن أي محتل، يبدي تعجبه من نظرة الأهالي لهم على أنهم محتلين، وينتظر من الشعب أن يفتح أحضانه لهم ويستقبلهم استقبال الفاتحين بعد أن أنعم عليهم الفرنسيون بما لم يخطر على عقولهم، فتفضل بتعيين حاكم منهم، ومنحهم الديوان الذي ينظم حياتهم، وضبط ملكيات الأراضي، ونظموا الضرائب لهم، وأرسوا استقلال القضاة، ومنعوا الرشوة وحاربوها، وهو لهذا يتساءل متعجبا: «أين الاحتلال؟» !!

الموروث الشعبي في الرواية 
وبما أن الرواية مغرقة في اللحظة التاريخية الآسرة عبر إطار محلي شديد الخصوصية، وهو صعيد مصر وتحديدا شمالي محافظة قنا، كان للموروث الشعبي حضوره الباذخ، عبر مستويات متعددة، منها على سبيل المثال ظهور الجنيات طويلة الأجساد تخرج من رأسها قرون وذات أظفار طويلة متعرجة حادة، وما رواه أحد جيران الشيخ عمار الذي أقسم أنه رأى سالم ابن الشيخ الذي قتل أثناء تصديه لقطاع الطرق، في ثوب أخضر فضفاض وعمامة سوداء تخفي أكثر من نصف وجهه بعد موته بسبعة أيام ، ممسكا بنبوت سميك له طرف حاد.
وكذلك ما أدرجته الرواية في موقف حبيبة ابنة الشيخ عمار التي منحت حبيبها إبراهيم حجابا ليقيه الشر وأذى الطريق ، أثناء تهيئه للخروج إلى جرجا لبيع الأواني الفخارية والاتجار بها، وما اشتملت عليه من ترديد الموروث الشعبي من قصص الزجالين والمواويل والأشعار التي تتردد على ألسنة شخوص العمل، وظهور تيمة الأحلام كتيمة فنية لها احترامها وخصوصيتها في الوعي الشعبي بصعيد مصر.
كما تناولت الرواية الشخصيات وعملها في إطار الصناعات والحرف التي كانت قائمة في ذاك الوقت من صناعة الطوب والحرف وزراعة الأرض والتجارة وغيرها.

ثنائيات متضادة
حفلت الرواية على امتداد (200) صفحة، بإبراز التنوع الوجودي عبر ثنائيات متقابلة، منها ثنائية العدل والظلم، الثورة الكامنة في النفوس في مقابل روح الاستسلام والانهزام، العزة والصولجان المحيط بالولاة المماليك إزاء صورة الشقاء والبؤس القاتم في حياة المصريين.
ومن هنا أعطت الرواية مجالا فسيحا للتردد على تلك المرايا المتقابلة، وتصوير ما تعكسه من تناقض صارخ وتضاد فجّ غير مقبول، فجاءت مليئة بالتساؤلات الحائرة، واتخذت من تيمة "المونولج" تكئة لتصوير تلك الأبعاد ونقل حالة الثورة الجليلة في النفوس، وبناء على ذلك أضحى "المونولج" بطلا آخر من أبطال العمل، فهنالك مساءلة النفس ومساءلة الآخر وحتى مساءلة الجماد على ألسنة شخوص العمل، مثل نهر النيل والليل  الذي كانت له تساؤلات عن الغضب والظلم والثورة والخنوع.

الخطاب الديني المداهن 
ومثلما مثلت الرواية الجانب المشرق في رجال الدين الثائرين على الظلم والاحتلال، مثلت كذلك جانبا آخر دميما لبعض رجال الدين، أولئك الذين يتقربون من الحكام وينطقون بما يرضيهم، على حساب الشعب، معتلين المنابر وخاطبين في الناس بالصبر والاستكانة، وتخديرهم بما أعده الله من جزيل الأجر للصابرين.
ومع ذلك الاستهجان المبطن لذلك الصوت الخانع، حفلت الرواية بالجانب الثوري الرافض لكافة أشكال الهزيمة وأسبابها ومسببيها فتقول مثلا على لسان إبراهيم: «حكام منعمون في رغد العيش وشعوب تئن»، وتحمل على اهتمام المماليك بالبهرج والزينة على حساب الشعب «إنهم يتسابقون في بناء المساجد حتى لا يفكر الناس في أصلهم»، وتوضح أصل مسألة التراجع الحضاري في الشرق كله عبر الإطار المحلي المخصوص، بأنه وليد مشوهٌ نبت من تحويل الدين إلى مجرد طقوس شكلية وتلاوات، وهو ما نلمحه مع دخول الفرنسيين وصدمة إبراهيم ودخوله في مرحلة التيه والاضطراب والحزن والعجز، وصراخه في الصوفية الذين اختبأوا في الزوايا يقرأون القرآن وصحيح البخاري ظنا منهم أن ذلك سيبعد الفرنسيين.

مواجهة غير متكافئة
اهتمت الرواية بتوضيح البون الشاسع والفرق الفاضح بين طرفي المعادلة (المماليك والفرنسيين)، فالمماليك الذين هم جزء أصيل من مسألة التراجع المصري لا يزالون يعتمدون على الآلات التقليدية في القتال من خيول وسيوف ورماح، في مقابل قوة الفرنسيين المدججة بالآلات الحديثة والمدافع والقمابر.
والشعب الحائر الضعيف إزاء ذلك يواجه خطاب الجنرال ديزيه  لجنوده الفرنسيس لاستكمال مهمة القائد العام باقتفاء أثر مراد بك ومماليكه حتى يتم إخضاع الصعيد كله، ملوحًا بسيف المعز وذهبه، عبر تقديم عرضين لأهالي القرى: إما المقاومة وبالتالي تتحول قراهم وبيوتهم وممتلكاتهم إلى رماد وأطلال بائسة، أو الاستسلام ويتم إنقاص المال المفروض عليهم إلى الثلث.
ويحاول المماليك المهزومين الذين لم يستعدوا لهذا اليوم جيدا وانشغلوا بمص دماء الشعب عبر فرض الإتاوات والضرائب، باللجوء في سبيل حماية نفوذهم ومكتسباتهم الخاصة إلى استنهاض الشعب وإشعال الثورة في قلوب الناس بالمنشورات التي تدعو للمقاومة وتحرض على الجهاد.
وسمهود الصغيرة المحلية هي هنا إطار جامع للموقف المصري في كافة أقطاره من المحتل الفرنسي والمتسلط المملوكي، تتجهز القرية للمعركة مع الفرنسيين، على خلفية مشهد مرعب تتقاطر فيه أفواج الأهالي الفارين من قرى بني عدي وجرجا وطهطا وبرديس هربا من مدافع الفرنسيين وفظائعهم، يشيعون ما فعله الفرنسيون بالبلاد من هدم للبيوت وحرق للمحاصيل وقتل للماشية .
وتبرز الرواية حضور المقاومة الدينية في تعبئة الجمهور وحشدهم للمقاومة، ويعتلي الشيخ الإدريسي المنبر ويخطب في الناس حاثا إياهم على الثبات وتاليا من القرآن ما يلقي في قلوبهم التأييد والثبات ويشجعهم على النفرة للقاء العدو، فضلا عن ألفي مقاتل من عرب ينبع وجدة ومكة والمدينة والطائف، قدموا من الحجاز وعبروا البحر الأحمر متحصنين بنسبهم الذي ينتهي إلى رسول الله، ومتحفزين بتحريض الشيخ المغربي الجيلاني الذي قام بدور هائل التأثير والأثر في تعبئة الناس في مكة والمدينة لنصرة إخوانهم المصريين ونصرة الدين والحق وقتال الفرنسيين.
كما تبرز حضور المقاومة النسائية، والدور هائل التأثير الذي لعبته المرأة المصرية في جهاد البلاد للفرنسيين، عبر حبيبة، التي تتلقى المنشورات من إبراهيم وتدور بها على نسوة سمهود تقرأها عليهن وتحرضهن على دفع أزواجهن إلى القتال قائلة «نحن لسنا أقل من نساء الإسكندرية والقاهرة اللائي خرجن يهاجمن الفرنسيس مع رجالهن ويقذفن التراب في وجه المحتل وينشدن أناشيد الحرب».

الحرب والأمل.. والحب يحضر أيضا 
على أكثر من محور عالجت الرواية ذلك المشهد المتقلب المجنون، فهناك صوت الأمل الذي يعلو في شوارع سمهود ودروبها مع شيوع أنباء مقاومة القرى على امتداد مصر، ومطاردة صفوف الفرنسيين من قرية لأخرى، وفي الوقت نفسه شيوع الأخبار عن نشوب الحمى الخبيثة وتفشيها بين جنود نابليون وعسكره، ما جعلهم يعتبرون ذلك علامة على بدء زوال الغمة وانكشاف الكرب وحلول الفرج.
وتتصدى المقاومة الشعبية للفرنسيين متسلحة بذلك الأمل العذب على مستويات متعددة، منها مثلا رفض شيخ البلد في سمهود تقديم خيول وماشية وأموال لقائد حملة الفرنسيين في الصعيد، تلبية لأوامر نابليون، لكن الطريق رغم ذلك ليس مفروشا بالورود، فتحتدم المعركة بين أهالي سمهود والقوات الفرنسية في «حوض الفرنساوي»، وتتراجع قوات المماليك التي يقودها مراد بك وحسن بك، ويكون المماليك أول من يفر من ساحة المعركة تاركين للأهالي وحدهم مصارعة العدو ومدافعه التي تحصد الأجساد وتزهق الأرواح.
وأمام الانشغال بالخطر المرعب اللائح في الأفق تتوارى الأحلام وتذوي المصالح الحياتية عند الناس، هنا يتوقف سير خطبة حبيبة ابنة الشيخ إبراهيم على رزق ابن الشيخ الإدريسي «فالوقت ليس وقت زواج، يدركان أن الطبل لا يمكن أن يدق أو تعلو الزغاريد أو تنطلق الأغاني، بينما الناس في سمهود يحترقون ألما ولا ينامون الليل بسبب تلك الأهوال التي يقترفها الفرنسيون».
ولكن رغم الحرب والخوف والمصير المجهول، ينمو الحب وتمدد رواقه ويتعزز حضوره الآسر، فحبيبة تستغل حضور إبراهيم للاطمئنان على ابنتيه، وتحاصره بالأسئلة عن المعركة المرتقبة وتفاصيلها وموازين القوى على الأرض.
ومع انتصار الفرنسيين وقيامهم بحرق بيوت القرية، يفر إبراهيم على حصانه نحو بيت حبيبته حبيبة وأبيها الشيخ عمار، ليطمئن عليهم وعلى بنتيه اللتين تركهما هناك، ويتناهى إلى مسامعه أصوات استغاثة، ويرى جنديا فرنسيا يهم بالاعتداء على حبيبة، ركض بسرعة نحوه وهوى ببلطة على رأسه فتركه جثة هامدة وهو يصيح به: «أيها الخسيس كيف تجرؤ على انتزاع روحي؟»
هذه هي المرة الأولى التي يكاشفنا فيها إبراهيم بحبه لحبيبة، ويعالن بها تحت وطأة الهزيمة ومشاهد الدمار والخراب والنار المشتعلة في بيوت سمهود وحاراتها، ما جعل حبيبة تقول له في صوت واهن: «آه يا إبراهيم.. طال الظمأ لسماع هذه الكلمات».
وحين تسأله حبيبة عن أخبار المعركة يطأطئ رأسه في حزن ويخبرها أن الهزيمة وقعت، لكن فصول المعركة لم تنته بعد «سنطاردهم في كل مكان، في الرديسية وأبو مناع والكوم الأحمر وفرشوط والوقف وقوص وإسنا وأبنود.. سنلاحقهم في النيل حتى يبتلع جثثهم، سننتصر بإذن الله يا حبيبة، وسنطهر مصر منهم طال الزمان أم قصر».
الرواية التي قدمها الكاتب في (200) صفحة، حفلت بكثير من الإسقاطات على الحاضر عبر مساءلة التاريخ واللحظة الماضية، وقدمت عبر إطارات متعددة جملة المشاكل التي عانى منها الشرق ولا يزال في طريقه نحو التحرير والنهوض والخلاص من كافة أشكال الهيمنة السياسية والاقتصادية والدينية، مختتمة بنفس العنوان الفرعي الذي زين الغلاف تحت العنوان الرئيسي على لسان الراوي العليم الذي شاهد الأحداث طفلا وكان طرفا فيها، قائلة «عندما تشتد النوازل نفر جميعا إلى الوطن».


عدد الزيارات : 1323 زيارة

كل التعليقات

    لا توجد تعليقات علي هذا الموضوع

اضف تعليق