> منوعات

الإسكندرية أيام عزلة جالياتها «الكوزموبوليتية»


الإسكندرية أيام عزلة جالياتها «الكوزموبوليتية»

بيروت – انديرا مطر –
هذه الصورة للإسكندرية اجتهد في رسم عالمها المؤرخ البريطاني فيليب مانسيل في كتابه «ثلاث مدن مشرقية: سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية»، وهو كتاب ضخم في جزأين من نحو 750 صفحة، قام بترجمته الباحث السعودي مصطفى قاسم وصدر ضمن منشورات «عالم المعرفة» الشهرية الكويتية.

امبراطورية تجارية
حين وصل محمد علي باشا إلى السلطة في مصر عام 1805 كانت الإسكندرية قد انحدرت بها الحال إلى ما دون مستواها في القرن الثامن عشر. فعهد محمد علي الذي وزّع إداراته الحكومية وقصوره بين القاهرة والإسكندرية، أطلق الاسكندرية مدينة كوزموبوليتية مشرقية لا تضاهى طوال 150 سنة تقريبا.
ففي مقابل حالة الإهمال السابقة، صار ميناء الإسكندرية عام 1817 مشهدا يعج ببناء السفن وتفريغها وتحميلها. وسعت المدينة إلى بناء امبراطورية تجارية وكوزموبوليتية. وفي عام 1880 وصف اوجين بواتو ذلك قائلاً: هناك يتحدث الناس كل اللغات وترى كل أنواع الأزياء وكل أقوال الشرق والغرب. وهذا التنوع هو ما شكل الطابع الحقيقي للاسكندرية التي تحولت السلطة فيها الى حكومة ثنائية: الحكومة المصرية والقناصل الأوروبيين الذين كانوا ربع سكان الإسكندرية آنذاك.
وبحلول عام 1864 صار الأوروبيون ربع سكان المدينة، ثلثهم يونانيون، 15 الف إيطالي، و10 آلاف فرنسي والباقون من المالطيين والسوريين. وكتب زائران فرنسيان آنذاك ان لكل أمم الأرض ممثلين هنا في هذا المجتمع الغريب من المستعمرين المختلفين في المظهر والعادات، ولا يجمع بينهم غير الرغبة في الثراء السريع والاحتقار الشديد لمؤسسات البلاد.

.. وعزلة
فاليونانيون مثلا كانوا يعيشون منعزلين عن الآخرين بمؤسساتهم ومقاهيهم وكاتدرائياتهم. وكانوا يشعرون بأن الإسكندرية وطنهم، وفق القنصل البريطاني آنذاك. وبين 1865 و 1872 ارتفع عدد سكان الإسكندرية من 181 ألفا إلى 213 ألف نسمة، فاقترب حجم سكانها من حجم سكان القاهرة وأصبح ميناؤها عالمياً. لكن هذا كله شهد نهايته في عام 1882. فبعد ثورة عرابي أحرق الأسطول البريطاني الإسكندرية ودخل اليها الجيش البريطاني مستعمرا.
طوال هذه الحقبة عاشت المدينة عصرها الذهبي الكوزموبوليتاني الطويل. وبحلول عام 1900 صار ميناء الإسكندرية الثالث في البحر المتوسط بعد جنوى ومرسيليا، وبلغ عدد سكانها 444 الف نسمة في عام 1917 بينهم 25 في المئة من الأجانب.

.. ومشاهير
وتكشف أسماء المشاهير الذين ولدوا في الإسكندرية تنوع القوميات التي عاشت في المدينة: الشاعر الإيطالي جوزيبي اونغاريتي، السياسي الالماني رودولف هس، المؤرخ البريطاني أريك هوبسباوم، الرئيس جمال عبدالناصر، محمد الفايد، الممثل عمر الشريف، المخرج يوسف شاهين، لورنس داريل، المغنيان جورج موستاكي وداليدا. وفيها أنشئت عشرات المدارس لجالياتها الكثيرة. وكانت اول لقطة سينمائية في مصر فيلماً وثائقياً قصيراً عنوانه «ميدان القناصل في الإسكندرية».
ودائما ظلت كوزموبوليتانية الاسكندرية متمركزة حول جالياتها التي كانت تعج بالتناقضات والتفاعلات. وعاشت الإسكندرية الحقبة الذروة في مجدها ما بين الحربين العالميتين.
لكن المدينة، على عكس ما فعلت المدن الأوروبية الكبرى، لم تطور هوية جامعة من شأنها بعد جيلين أو ثلاثة أن تلغي الولاءات المتناقضة للجاليات؛ اذ ظل السكندريون مرتبطين بجالياتهم القومية والدينية الأصلية. ففي كل عام تقريباً كانت تُزيَّن أحياء الإسكندرية بالأعلام الفرنسية أو الإيطالية أو الإنكليزية في أثناء المهرجانات الكثيرة. وكانت الجاليات الأجنبية تقاتل في الحروب التي تخوضها بلدانها، وخاصة اليونانيين الذين كانوا دائما يشاركون في حروب اليونان الاستقلالية وفي الحربين العالميتين. وفي سنوات المدينة الذهبية تذمر لورنس داريل الشهير بروايته الكبيرة «الرباعية الإسكندرية» من ان السكندريين يقتصر موضوع محادثاتهم على المال الذي يجري في عروقهم مجرى الدم.

.. وحروب
وفي الحرب العالمية الثانية سرعان ما وجد 20 ألف جندي للحلفاء في مصر: بولنديون، هنود، استراليون، نيوزلنديون إضافة إلى البريطانيين. وهكذا غدا ميناء الإسكندرية ضرورياً لإمداد المؤن والذخيرة والطائرات والدبابات لقوات الحلفاء في أنحاء الشرق الأوسط كافة.
وحتى يوليو 1944 ظل إطفاء الأنوار ليلاً أمراً معتاداً في الإسكندرية لكن سماء الليل كانت تضاء بنيران مضادات الطائرات والقنابل المضيئة.
وبعد غزو جيوش المحور لليونان في عام 1941 وصل الى الإسكندرية ملك اليونان وحكومته وآلاف الجنود وبحارة الاسطول اليوناني، وجاء معهم لاجئون وكتاب بريطانيون وجدوا إلهاماً في المدينة في زمن الحرب. وغدت الإسكندرية لبعض الوقت عاصمة الحكومة اليونانية في المنفى.
وصمدت الإسكندرية الكوزموبوليتية في اختبار الحرب أفضل من عاصمة الاتحاد السوفيتي موسكو. وفي أغسطس وصل تشرشل إلى الإسكندرية وعزل القائد العسكري البريطاني وعين بدلاً منه الجنرال مونتغمري. وفي ذلك المناخ الحربي كان السكندريون يخرجون الى شرفاتهم في الليل لسماع أصوات تمكنهم من تخمين ما يحدث.
وفي ابريل 1944 حدثت قرب الإسكندرية المعركة الأولى من الحرب الباردة بين الشيوعية وأعدائها؛ اذ تمرد الجنود والبحارة اليونانيون تأييداً للشيوعيين في الحكومة اليونانية، فقمعتهم القوات البريطانية وقتلت منهم عشرة اشخاص.

زحمة ملوك
بدت الإسكندرية آنذاك مستقرة مرحبة باستقبال زمن آفل، فهي استضافت العائلات الملكية المخلوعة وامراء العثمانيين وولي عهد اليونان الأمير بول وزوجته وأطفاله لاجئين. وفي عام 1946 وصل الى المدينة الملك فيكتور ايمانويل عاهل إيطاليا وحفيده، وعاهل بلغاريا وعاهل البانيا بدعوة من الملك فاروق. وفي عام 1947 اقام الملك فاروق حفلة شاي ملكية للمصالحة بين ملكي البانيا وإيطاليا.
وظلت الحياة الثقافية في الإسكندرية كوزموبوليتية. وفي العام 1947 أنشأت مجموعة من المتحمسين الأغنياء معهدا للموسيقى هو الأول من نوعه في مصر، وفي الشتاء كانت فرقة المسرح الوطني الفرنسي وفرقة باليه كارلو تعرضان أعمالهما على مسرح محمد علي وكانت المدارس البريطانية تعلم طلابا من 39 جنسية مختلفة.

انتقام القاهرة
في عام 1952 كانت ثورة يوليو وجها من وجوه انتقام القاهرة من الإسكندرية. وفي الثامن والعشرين من يوليو 1952 أصدرت الحكومة الثورية الجديدة أمراً للموظفين والوزراء الذين يقضون الصيف في الإسكندرية بالعودة إلى القاهرة، فكان ذلك إعلاناً لنهاية دور الإسكندرية عاصمة صيفية ونهاية لتأكيد مصر هويتها المتوسطية. وفي عام 1952 ولأول صيف في زمن السلم حُكمت مصر من القاهرة، وظهرت المعارضة في الإسكندرية. وكما حدث في روسيا عام 1918 عندما عادت العاصمة من سان بطرسبرغ الى موسكو، انكفأت مصر الى الداخل بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة.


عدد الزيارات : 1143 زيارة

كل التعليقات

    لا توجد تعليقات علي هذا الموضوع

اضف تعليق