> فن وثقافة

عن الحرية والآخر.. والفلسفة أيضاً د. الزواوي بغورة: لا معنى للحب ولا للحقيقة.. إذا أخفيناهما


عن الحرية والآخر.. والفلسفة أيضاً د. الزواوي بغورة: لا معنى للحب ولا للحقيقة.. إذا أخفيناهما

مهاب نصر -  «لا تتفلسف».. هكذا يقال لك إذا أردت أن تناقش موضوعا بأسلوب عقلاني، وكأن التفلسف نوع من التلاعب اللفظي أو المزايدة بلا لزوم، أو كأن الواقع يسير في مكان والحقيقة في آخر، فيقال لك أيضا وأحدهم يربت على كتفك «كن واقعيا». لماذا تبدو علاقتنا بالفكر المتأمل (والفلسفة هي رتبة عالية فيه) مشوبة بالتحفظ، إن لم يكن النفور؟ هل لهذا علاقة بموقفنا القلق تجاه ذواتنا وهويتنا، أيعبر عن نوع من الخوف من الآخر؟ والأكثر مدعاة للتساؤل هل من علاقة بين النفور من الفلسفة والحرج الشديد تجاه فكرة الحب والإعلان عنها؟ في حوارنا مع د. الزواوي بغورة أستاذ الفلسفة في جامعة الكويت حاولنا أن نتلمس هذه الجوانب الشائكة بعيدا عن الاكتفاء بالنظرة الأكاديمية وحدها. - سؤال متجدد: هل تخاف مجتمعاتنا من التفلسف؟ على ما يبدو، فإن مجتمعاتنا تخاف من أشياء كثيرة، تخاف من الأجنبي، والتعدد، والجديد، وتحاول الامساك بشدة بشيء تسميه «هويتنا» حتى لا تضيع منَّا. ولو فكَّرنا قليلا في هذا الخوف، لأدركنا أنه ناتج عن الشعور بالتهديد من قبل الآخر. وكما تعلم، فنحن نحيا في عالم لم نشارك في تشكيله، و لم نقدر بعد على امتلاك مفاتيحه الأساسية، ولدينا شك كبير في الطريق الذي نسلكه إلى هذا العالم، فلا تزال خطواتنا متردِّدة، ومازلنا بعد نحيا في المنطقة الرمادية. وبلا شك، فإن الفلسفة لا تزال تثير المخاوف عند بعض الفئات في مجتمعاتنا، بحكم ما تتصف بها من رغبة دائمة في المعرفة، والشك في كل ما هو قائم، والاحتكام إلى العقل ثقافة ألفت تغليب النص على العقل، والإيمان على المعرفة، واليقين على الشك، والجواب على السؤال. والتفلسف، يعني أن نسأل عن كل شيء، وليس هنالك شيء لا يطاله السؤال الفلسفي، وهذا ما يثير الخوف، ويدفع بالبعض إلى استعمال آليات المنع، أو التشويه التي تحد من عملية التفلسف، ولكن مع ذلك، فإن الفلسفة حاضرة في ثقافتنا العربية المعاصرة، وتحاول الاسهام في تنمية مجتمعاتنا. - لماذا لم تنشأ في مجتمعاتنا العربية الحديثة فلسفة سياسية رغم أزمات الأنظمة المتكررة؟ هذا سؤال مهم للغاية، لأنه يتعلق بمدى مواكبة الفكر لتطلعات المجتمع، وعلى قدرته على تقديم الحلول للأزمات. وكما تفضلت، فإنني أحاول سواء من خلال ترجمتي لبعض كتب ميشيل فوكو أو الأبحاث التي أنجزها، أن أقدَّم بعض الوسائل المنهجية لفهم ما نحن عليه. ولقد انتهيت أخيرا من ترجمة آخر ما صدر لـفوكو من دروس بعنوان «الشجاعة في قول الحقيقة»، وأحاول توظيف بعض مفاهيمه في تأسيس ما تسميه أنت الفلسفة السياسية، وأفضل أن أسميه الفلسفة الاجتماعية التي عرضت بعض خطوطها الأولية في كتابي: الاعتراف، من أجل مفهوم جديد للعدل. وبلا شك، فإنك ستسألني: ما الفرق بين الفلسفة السياسية والفلسفة الاجتماعية؟ دعني في البداية أشير إلى أن الفكر العربي منذ عصر النهضة يغلب عليه الطرح الإيديولوجي، أي الانتساب إلى إيديولوجية من الإيديولوجيات الحديثة والمعاصرة، واعتمادها أداة للنهضة والرقي والتقدم. وإذا كان هذا المسعى مبرَّرًا، بحكم الضرورات الحضارية، فإنه لم يؤدّ، بحكم طبيعته إلى طرح الأسئلة الأولية، وبخاصة تلك المتعلقة بالدولة وقيمها. وأعني بذلك قيمة العدل والحرية. وإذا كانت الفلسفة السياسية تطرح مثل هذه الأسئلة، فإنها تعالجها وفقا لمنظور نظري مجرد يغلب عليه الطرح المعياري، في حين أن الفلسفة الاجتماعية تعمل على دراسة الدولة وفقا لتجارب تاريخية محددة ومعايير أخلاقية، وذلك بحكم اهتمامها بالمسألة الاجتماعية وبالصراعات الاجتماعية المختلفة. لذا، تتميز الفلسفة الاجتماعية عن الفلسفة السياسية في مناقشتها لقيمة العدل على سبيل المثال، في ربطها للعدل بأشكال الظلم أو الجور، سواء تعلق الأمر بالأفراد أو الجماعات أو المؤسسات، وبخاصة صراع الفئات المهمشة والمستبعدة، والقاصرة، والتي تعمل من أجل تحقيق حياة اجتماعية كريمة. وفي تقديري، فإن ما تعرفه بعض الأنظمة من أزمات، لا يعود فقط إلى غياب الفلسفة السياسية أو الفلسفة الاجتماعية، لأن هنالك إسهامات نظرية في هذا المجال، مهما كانت قيمتها، وإنما يعود لأسباب كثيرة، لعل أهمها هو انقطاع بعض هذه النظم عن متطلبات مجتمعاتها، وعدم قدرتها على انجاز الإصلاحات الضرورية للمجتمع، وإصرارها على إجراء عمليات ترقيع بغرض الحفاظ على نفسها. - يبدو النشاط البحثي والأكاديمي المتعلق بالفلسفة الغربية وكأنه توقف عند نهاية الثمانينات! يجب الإقرار بأن من الصعب مواكبة حركة الأفكار في العالم، وذلك بحكم الكم الهائل من الكتابات والدراسات والأعمال التي تنشر باللغات العالمية الكبرى. وعلى الرغم مما عرفته حركة الترجمة في العالم العربي في السنوات الأخيرة من اهتمام، أبرزه إنشاء بعض مراكز الترجمة، إلاَّ أن هذا الجهد يبقى محدودًا سواء من جهة الإمكانات التي تملكها البلدان العربية مقارنة بما ينجز، هذا أولا. وثانيا، لا نملك في عالمنا العربي مراكز بحثية مستقلة، تهتم بالتطورات الفكرية والعلمية التي يعرفها العالم، ولأن معظم جامعاتنا يغلب عليها التعليم مقارنة بالبحث. وثالثا، إن مجالات النشر محدودة، وبخاصة ما تعلق بالمجلات الثقافية والفكرية التي تتابع حركة الأفكار. ورابعا، فإن ما ينجز من بحوث، وأطروحات على محدوديته،لا ينشر في الغالب، وإذا ما نشر، فإن انتشاره محدود للغاية. لذا، تبدو الصورة كما تفضلت، وكأننا نردد ما قيل منذ عقدين من الزمان أو أكثر، ولكن مع ذلك، فإن الواقع مختلف بعض الشيء، ويمكنني أن أستشهد بما أقوم به شخصيا، فلقد كتبت عن النظرية النقدية كما يمثلها جيلها الثالث المعاصر لنا، وبخاصة عند بعض الفلاسفة الألمان والأميركان والكنديين أمثال اكسيل هنيث، ونانسي فريزر، وتشارلز تايلور، وأنهيت منذ فترة ترجمة كتاب عن الفلسفة المعاصرة يعرض آخر تطورات هذه الفلسفة، وأتمنى أن يكون في متناول القراء في معرض الكتاب القادم في الكويت، وأعكف حاليا على ترجمة كتاب الفيلسوف الأميركي تشارلز لارمور وعنوانه «الحداثة والأخلاق»، يعيد النظر في مقولات ما بعد الحداثة، وأشارك مع بعض الزملاء اللبنانيين في كتابة موسوعة عن الفلسفة الفرنسية المعاصرة، تتضمن أسماء جديدة لم يسبق للقارئ العربي أن اطلع عليها. ومن هذه الأسماء التي شرعت في الكتابة عنها الفيلسوف الفرنسي ميغال ابنسور الذي قدَّم نظرية طريفة في الصلة بين الديموقراطية والطوباوية. - «الحرية» و«التحرر» و«التحرير» هل هناك خلط بين هذه المفاهيم؟ في تقديري، هذه الكلمات الثلاث متكاملة وليست متداخلة أو متضاربة أو متناقضة. فمعظم البلدان العربية عرفت بدرجات مختلفة حركات تحرر وتحرير للأرض من الاستعمار الأجنبي. وتعمل على التحرر من التبعية والتخلف وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي الذي تقوده الدولة الوطنية. ولكن بعض هذه الدول، كما تعلم، وبعد مرور أكثر من نصف قرن من الاستقلال، اخفقت في انجاز اهدافها، ودخلت في أزمة بنيوية، وكشفت في الوقت نفسه عن طابعها التسلطي والمتصلب الذي يرفض الإصلاح والتجديد. لذا، أصبح المطلب الأساسي للمواطن العربي اليوم هو مطلب الحرية و الديموقراطية والعدالة. وهو ما عبرت عنه مختلف الحركات الاحتجاجية التي تعرفها المجتمعات العربية منذ 2011 إلى يومنا هذا. - هل يمكن مضاهاة غيابنا عن الفلسفة، بغياب الحب؟ ترتبط الفلسفة بالحب، كما تعلم، من خلال اسمها وأصلها ومسارها. فالفلسفة محبة الحكمة، وبحث عن الحقيقة. وعندما أراد أفلاطون أن يعرِّف الحقيقة بما هي غاية الفلسفة ربطها بالحب الذي يتصف في نظره بأربع صفات أساسية هي: عدم التخفي، وعدم الاختلاط، والاستقامة، والديمومة. فلا معنى للحب ولا للحقيقة إذا كانت متخفية. الحقيقة يجب ان تتكشف، والحب يجب أن يتجلى. ويجب ألا يختلط الحب بغيره؛ كأن يختلط بالطمع، والحقيقة يجب ألا تختلط بالخطأ. ويجب أن يكون الحب مباشرًا، لا التواء فيه، مثله أيضا مثل الحقيقة التي يجب أن تكون مستقيمة وواضحة وضوح الشمس. وأخيرًا، لا معنى للحب إن لم يكن دائما، فالحب الحقيقي يجب ان يكون دائما وليس مؤقتا، وكذلك الحال بالنسبة للحقيقة التي لا تكون حقيقة إلا إذا كانت دائمة، وإلا اصبحت مجرد كذبة. وعليه، وبهذا المعنى، يُمكننا أن نقارن غياب الفلسفة في ثقافتنا بغياب الحب، الذي لا يزال، كما تعلم، يدخل ضمن دائرة الممنوع، والمسكوت عنه. وفي تقديري، فإنه سواء قلنا بغياب الفلسفة والحب في حياتنا أو بحضورهما المحدود أو الهامشي أو المسكوت عنه، فإن ما يجب التشديد عليه، هو أننا لا نستطيع أن نحب علانية، ولا أن نعلن عن الحقائق في غياب الحرية من حياتنا. - مواقع التواصل الاجتماعي هل كونت خطاباً اجتماعياً جديداً؟ لم يعد سرًّا أن وسائل التواصل الاجتماعي قد فرضت نفسها، وخلقت فضاءها، وأكثر من هذا، فقد أثرت في مجريات الأحداث التي تعرفها المجتمعات العربية منذ 2011 على أقل تقدير. وكشفت عن محدودية وسائل التواصل التقليدية، وبخاصة وسائل التواصل الرسمية. وإذا كان من غير الممكن الحديث عن خطاب اجتماعي محدد ترفعه هذه الوسائل، بحكم تنوعها، فإن المؤكد أن لمستعملي هذه الوسائل خطابات مختلفة، بعضها اجتماعي وسياسي، يظهر جليا في حركات الاحتجاج التي تعرفها بعض البلدان العربية. ويمكن أن نلخص هذا الخطاب الاجتماعي والسياسي بالمطالبة بالحرية والديموقراطية، والعدالة والكرامة.



عدد الزيارات : 1836 زيارة

كل التعليقات

    لا توجد تعليقات علي هذا الموضوع

اضف تعليق