> فن وثقافة

للروائي عبدالله البصيص «قاتل سعيد».. الكتابة كنوع من الاستشفاء


للروائي عبدالله البصيص «قاتل سعيد».. الكتابة كنوع من الاستشفاء

باسل الزير - «هناك أشياء يعطينا جهلها التام بها معنى كافيا لفهمها، وهناك أشياء معرفتنا بها تسبب جهلا كاملا بما تعنيه» هكذا يكتب عبدالله البصيص. لم تعد الرواية في الآونة الأخيرة ضربا من الإمتاع والإيناس، بقدر ما تطرح من فلسفة ورؤية جديدة للعالم والانسان والأشياء، ورواية «قاف قاتل.. سين سعيد» للأديب الكويتي عبدالله البصيص، تمثل لنا بعدا وجوديا، وحكاية سحرية عن اللامقروء في المجتمع الكويتي بالتحديد، فهي لا تمثل لغزا في جريمة قتل، ومحاولة حله بصورة غرائبية اقرب للواقعية السحرية، بقدر ما انها تبحث عن شغف الانسان بالمعرفة، ووخز الضمير، فما من علاج ناجع سوى البوح والاعتراف والسرد والكتابة. فالكتابة نوع من الاستشفاء، وشغف الشك، وقلق المعرفة، لا يبدد غيومهما سوى الكتابة. «حيث الشك خاطرة فاتنة، تتعرى لإيهام الذهن، فتثير شهوة التفكير، والفضول: يكتنف الانسان بالنقص تجاه امر يجهله، ويظل مقتنعا انه لن يستعيد كماله الا بمعرفته» كما يقول البصيص، فليس هناك من حرفة افضل من السؤال «فالأجوبة عمياء وحدها الأسئلة ترى» كما يقول سقراط. وأحداث الرواية تمتد بنا في زمن ما بعد الغزو في مطلع التسعينات في الكويت، في ذلك الزمن الجميل، الذي نسميه في لغتنا الدارجة «زمن الطيبين» الذي يعيش فيه الاطفال «الطفولة الحقيقة» زمن الشوارع والحارات والأزقة، زمن الربع والأصدقاء والمراهقة، زمن الطيش والحب وما يتخلله من اثبات الذات، وصراع الوجود بين ان تكون او لا تكون، بين الاقران، في زمن الهوشات والعصابات التي هي زمن فارق في مرحلة المراهقة، وقلما نجد من يعبّر عن هذه المرحلة لدى الكتاب والادباء بتفاصيلها الدقيقة إلا الأقلون. وما برح الانسان تعتريه المشاعر وتكتنزه الرغائب، لكن الاديب والفنان والشاعر هو من يستطيع ان يعبر عما يختلج في النفس من تلك العواطف. نبش الماضي تبدأ الرواية في زمن 2014، حيث المحقق ماجد الذي يبحث عن لغز مقتل سعيد جونكر، ويفتح تحقيقا مضى على اغلاقه سنوات طويلة، فينبش الماضي ويصير بنا في احداث توالت في زمن 1991 وما بعده من أعوام، في محاولة فك لغز لطالما يثير فينا لغزا تلو آخر، في تشويق مذهل، ولغة ساحرة، وكلمات تتصارع مع الصور والتكنولوجيا، ليضرب لنا مثالا كيف ان الصورة لم تكسر القلم، في صراع فلسفي ووجودي بين العوالم الافتراضية والعوالم الحقيقية التي عاشها جيلنا، وآية ذلك ما عبر عنها بقوله «انها مدمرة للعقل، وان الحكومات تزرع بها الأفكار لتحد الأطفال عن الإرادة والتفكير، وإنا اصبحنا متاحين للجميع دون خصوصية فردية» وهذه الاشكالية تحتم علينا فهم تطرق البصيص للصراع، بين الصورة والكلمة. فهل دلالات الصورة تختلف عن دلالات الكلمة؟ وهل للكلمات قدر تتيح به للعقل أدوات التفكير بينما الصورة متسلطة مترفة آمرة تمنع الخيال من التحليق؟!! بين شخصية «عادل» بالكلمات و«فهد» بالصور والمحقق «ماجد» الذي يجمع الصورة والكلمة والمخيلة والبطولة كبنيان مرصوص، يشد بعضه البعض. تظهر لنا الرواية في احداثها المشوقة التي تأسر الالباب، وتشدك من مبتداها إلى منتهاها دون ان تشعر بوقت الزمان. وما اجمل الحوار الماتع بين الاعمى والاطرش، وبين السمع والبصر، وبين الكلمة والصورة ايهما سيبقى وينتصر؟! فلاش باك بهذه الفلسفة تخرج لنا الرواية من بذرة التكنولوجيا والكلمات، سواء بسواء؛ فمن الصورة نرى أفلام الكرتون، وتسجيل الاحداث، عبر حيلة الهاتف النقال، ومن الكلمة عبر فعل الكتابة وممارستها للبوح والاعتراف وصناعة الخيال والتفكير حيث يضع لنا البصيص «36 تسجيلا» لرواية احداث القصة عبر اعتراف ضمني لفهد نشوان.. ولن افسد على القارئ بالنتائج، واقطع عليه متعتها، بقدر همي في صناعة الرواية التي تأخذنا في أزمنة دائرية وشخصيات تعيد نفسها عبر الزمن باكتمال نضجها وشخصياتها، فتخلق لنا الفلاش باك، مع اسقاطات اجتماعية للواقع الكويتي، حيث فساد الطرق، وفساد التعليم، وضياع الأطفال، والوساطات، وزمن التفحيط بالسيارات، الذي ما انفك يمثل عنوان الشباب، حتى يومنا هذا، فالأحداث تقع في «منطقة الفردوس» التي يطلق عليها البعض شيكاغو الكويت! اما اللغة الروائية فقد جاءت جميلة وفصيحة، مع بعض الكلمات العامية، التي لم تفسد من سياقها، انما جاءت من تعبير شخصياتها، فلا يمكن السب والشتيمة والتعيير الا بلهجة المدن، ولغة الحارات، حيث الغمز واللمز لا يعبر الا بلهجة محلية التي «ان اعربتها افسدتها» كما يقول الجاحظ. النفس اللوامة عنوان الرواية ظهر طويلا، ليعبر عن سيميائية، بين اللون الأحمر «الدم» وحرف القلقلة المفخم «قاف» الذي يمثل انفجارا في وجه القارئ، حينما يعرف من هو القاتل،«وسين» كسر ولغز سار في تلافيف الرواية. وجاءت فكرة التسامح مع النفس اللوامة عنوانا يكشف للراوي طريقة البوح المسجل، كاعتراف ضمني كي لا تظل حقيقة غائبة، وهذا السؤال البشري ان يعش بآلام الحقيقة خير له من ان يعيش متعتها بوهم وجهل عبر «الانسان الخطاء» كما يقول ريكو، يقول البصيص: «الذي يلوم انسانا على خطئه، دون ان ينظر الى ظروفه، كمن يلوم مقياس الحرارة على ارتفاع درجة الحرارة»، و«الخطأ غير المتعمد لا يعبر عن ميول الانسان وليس مقياسا للاستعداد الداخلي لفعل الشر، ولا يدل على انه سلوك، كما لا يحكم على من يتعثر بحجر انها طريقته في المشي!»   نقد الرواية هناك بعض المثالب البسيطة التي تؤخذ على الرواية وهي: 1 - طول العبارات، التي كان من الاجدر ان تساق في جمل صغيرة. 2 - كثرة السرد والاحداث المتتالية في مراحل المراهقة كان ممكن تقصيرها واختصارها. 3 - حيلة التسجيلات في سرد الرواية لا تعبر عن حقيقة واقعية في سرد الاحداث. 4 - نهاية الرواية- حل العقدة- لا تزال يكتنفها بعض من الغموض، وكان من الأفضل الإفصاح عنها اكثر وتوضيحها. 5ـ طول عنوان الرواية فقد كان اربع كلمات وكان يكفي «قاتل سعيد..» وعلى كلٍ.. فبنظرة كلية موضوعية، اعتبرها من أعظم الاعمال الاديبة الخليجية والعربية التي قدمت في السنوات الأخيرة، وليس ذلك رجما بالغيب، ولكن أتوقع وأتنبأ لها الوصول إلى العالمية اذا ترجمت، وانا بذلك زعيم، فهنيئا للكويت.. الاحتفاء بها.

3

عدد الزيارات : 1002 زيارة

كل التعليقات

    لا توجد تعليقات علي هذا الموضوع

اضف تعليق